في أغلب الأحيان تم توصيف شهداء مجزرة داعش بليبيا على أنهم "مصريون أقباط" وفي بعض الاحيان أضيفت كلمة "فقراء". ولم يكن لانتماء كافة الشهداء لريف جنوب مصر أي مدلول بخلاف مسألة الفقر التي هي بدون شك أكثر انتشاراً بريف جنوب مصر من سواها من المناطق. لكن غاب عن النقاش إلى حد بعيد علاقة المأساة بأزمة القطاع الزراعي المصري، أو ما يمكن ان نسميه بتوابع التحول النيوليبرالي للزراعة المصرية، والذي بدوره خلّف آلافاً من القوى المعطلة في الريف. وتشير دراسة عبد المولى اسماعيل إلى أن المتضررين من قانون المالك والمستأجر يصل عددهم إلى حوالى مليون مستأجر خسروا بشكل جزئي أو كلي موارد رزقهم وأن حوالى نصف مليون خسروا مورد رزقهم الأساسي جراء القانون. طرد الفلاحون من أراضيهم ولم يستطع عدد كبير منهم استئجار اراضي زراعية بعد أن ارتفع الإيجار السنوي. نتحدث عن نصف مليون عائل أسرة فقدوا مورد رزقهم الأساسي أي حوالي 2.5 مليون فرد علي الأقل تضرروا بشكل مباشر من القانون وواجهوا صعوبةً في إيجاد سبل للعيش. مرّ أكثر من 17 عاماً على تطبيق القانون ولاتزال آثاره قاتلة سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
السؤال الأول: منذ 1997 وحتى اليوم، أين ذهب كل هؤلاء المطاريد من أرضهم وكيف يعيشون؟
إحدى الاجابات استخلصتها من عملي الميداني في إحدى قرى الصعيد. خلال عام 2009 كان الحديث عن ليبيا يزيد عن الحديث عن مصر. كانت ليبيا حاضرة أكثر من مصر وكان السفر الي ليبيا يمثل مصدراً لتوفير دخل يسمح بالاستمرار في الزراعة أو بالبقاء للأسرة. في إحدى قرى الدراسة حوالى 90% من الذكور المتخطين لعمر 18 عاماً مروا بتجربة الهجرة إلى ليبيا وهناك من توقف بعد أن تغيرت الإجراءات ليصبح السفر بالطائرة بدلاً من الميكروباص. يقول أحد الشباب: "حين كان السفر بالميكروباص كنت أذهب للعمل 3 أو 4ًً. أشهر لأحصل بعض المال لإعانة والدي كانت الرحلة ذهابا وايابا تكلف 90 جنيهاً وأجمع خلال الثلاثة أشهر حوالى 2000 جنيه أما اليوم فالرحلة تكلف 1500. جنيه توقفت عن السفر وأعمل هنا في حال وجود يومية".
لقد ارتفعت الإيجارات الزراعية لتصل إلى 5000 جنيه وذلك قبل الثورة أي في عام 2010/2009 فكيف لهؤلاء الفقراء أن يحصّلوا هذا المبلغ لزراعة أرض تحتاج إلى تكاليف إضافية لشراء مستلزمات وليست بالضرورة قادرة علي تغطية التكاليف بالاضافة إلى متطلبات الحياة. القطاع الزراعي يطرد الفقراء جداً لعدم قدرتهم على الاستمرار.
لقد حولت الإجراءات التي اتُخذت في 1997 آلاف البشر إلى بشر "فائضين عن الحاجة" طُردوا من الأرض التي كانوا يزرعونها وسوق المدينة لم يعد قادراً علي استيعابهم لأنه تشبع بل وفاض في تشبعه. كان العراق يمثل منفذاً آمنا وملاذاً جيداً للهاربين من رياح التحولات الزراعية وساهم في إحداث تراكمات مالية للعديد من الريفين سمحت بتأمين منزل وأحياناً ملكية أرض. ليبيا لا تحقق ذلك لكنها تبقيهم أحياء في انتظار فرج ما.
بعد الثورة المصرية واندلاع العنف بليبيا عاد غالبية العمال المصريين، وقُدِّر عدد من عادوا من مليون إلى مليون ونصف. هذا العدد الضخم ذو أغلبية ريفية.
السؤال الثاني: منذ 2011 وحتى 2105، ما الذي حدث لهؤلاء العائدين وكيف وفروا احتياجاتهم المعيشية؟
عاد الفلاحون من ليبيا وهم يحلمون بأن تنظر الدولة إليهم خاصة أن أصواتاً داخل الإعلام عبر نقابة الفلاحين طرحت مسألة مراجعة قانون المالك والمستأجر وتقنين الإيجارات الزراعية وأخرى تحدثت عن تسليم أرض للفلاحين. وكانت السنة الأولى من الثورة مفعمة بالأحاديث الإيجابية والتقى عصام شرف بوفد الفلاحين. لكن وفي ذات الوقت كان الغلاء ينتشر ومع الوقت بدا أن إعادة توزيع "مكاسب" الثورة "المادية والرمزية" لم يشملهم، فهم ليساو عاملين في الدولة حتى يستفيدوا من الحد الأدني للأجور أو متلقين للضمان الاجتماعي حتى يتضاعف معاشهم. ولم يكن هناك إمكانية لرفاهية الانتظار الطويل أو حتى النضال المفتوح لأن الأفواه أيضاً مفتوحة. فعادوا إلى طريقهم القديم الذي غدا أكثر صعوبة لكن يظل هو الباب الوحيد لإعالة الأسرة وهو السفر إلى ليبيا.
هؤلاء الفلاحون الذين تحولوا تحت ضغط السياسة الزراعية إلى عمال تراحيل دوليين يحملون أرواحهم فوق أكتافهم ينفضون أحلامهم بالتفات الدولة أو/و الثورة لهم ويواصلون سيرهم نحو المجهول. لسان حالهم يقول "نموت واحنا بنشقى أحسن مانموت من الجوع".
في دراسة عن البيروقراطية والعنف الهيكلي والفقر في الهند يشير أخان جوبتا إلى أنه عادة ما يتم تجاهل اعتبار الموت جوعاً أو فقراً نتاج العنف الهيكلي التي تمارسه الدولة وأنها لم تستطع شمل هؤلاء الضحايا في سياساتها للحد من الفقر ومكافحة الجوع، فهل لنا أن نرجع هذا الاندفاع الريفي نحو الموت المحتوم ـ وليس عملية القتل الوحشية نفسها- إلى العنف الهيكلي الممارس عبر سياسات الدولة الزراعية؟